فصل: قال ابن عطية في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وعدل عن تعدية فعل الإِرادة للضر والرحمة، إلى تعديته لضمير المتكلم ذات المضرور والمَرحوم مع أن متعلق الإِرادات المعاني دون الذوات، فكان مقتضى الظاهر أن يقال: إن أراد ضرّي أو أراد رحمتي فحق فعل الإِرادة إذا قصد تعديته إلى شيئين أن يكون المرادُ هو المفعول، وأن يكون ما معه معدىًّ إليه بحرف الجرّ، نحو أردتُ خيرًا لزيد، أو أردت به خيرًا، فإذا عدل عن ذلك قصد به الاهتمام بالمراد به لإِيصال المراد إليه حتى كأن ذاته هي المراد لمن يريد إيصال شيء إليه، وهذا من تعليق الأحكام بالذوات.
والمرادُ أحوال الذوات مثل {حُرمت عليكم الميتة} [المائدة: 3]، أي أكلها.
ونظم التركيب: إن أرادني وأنا متلبس بضرّ منه أو برحمة منه، قال عمرو بن شاس:
أَرَادَتْ عِرارًا بالهَواننِ ومَنْ يُرِدْ ** عِرارًا لَعَمْرِي بالهَوَاننِ فَقَدْ ظَلَمْ

وإنمَا فَرض إرادة الضر وإرادة الرحمة في نفسه دون أن يقول: إن أرادكم، لأن الكلام موجَّه إلى ما خوفوه من ضُر أصنامهم إياه.
وقرأ الجمهور {كاشفات ضُرِّه} و{ممسكات رحمته} بإضافة الوصفين إلى الاسمين.
وقرأ أبو عمرو ويعقوب بتنوين الوصفين ونَصب {ضُرَّه} و{رحمتَه} وهو اختلاف في لفظِ تعلُّق الوصف بمعموله والمعنى واحد.
ولمّا ألقمهم الله بهذه الحجة الحجَرَ وقطَعهم فلا يُحيروا ببنْت شَفَة أَمَر رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقول: {حسبي الله عليه يتوكل المتوكلون} وإنما أعيد الأمر بالقول ولم يَنتظِمْ {حسبي الله} في جملة الأمر الأول، لأن هذا المأمور بأن يقوله ليس المقصود توجيهه إلى المشركين فإن فيما سبقه مَقنَعًا من قلة الاكتراث بأصنامهم، وإنما المقصود أن يكون هذا القول شِعَارَ النبي صلى الله عليه وسلم في جميع شؤونه، وفيه حَظ للمؤمنين معه حاصل من قوله: {عليه يتوكل المتوكلون} قال تعالى: {يا أيها النبي حسبك اللَّه ومن اتبعك من المؤمنين} [الأنفال: 64]، فإعادة فعل قل للتنبيه على استقلال هذا الغرض عن الغرض الذي قبله.
والحسْب: الكافي.
وتقدم في قوله تعالى: {وقالوا حسبنا اللَّه ونعم الوكيل} في [آل عمران: 73].
وحُذف المتعلِّق في هذه الجملة لعموم المتعلِّقَات، أي حسبيَ الله من كل شيء وفي كل حال.
والمراد بقوله اعتقادُه، ثم تذكُّرُه، ثم الإِعلانُ به، لتعليم المسلمين وإغاظة المشركين.
والتوكل: تفويضُ أمور المفوِّض إلى من يَكفيه إياه، وتقدم في قوله: {فإذا عزمت فتوكل على اللَّه إن اللَّه يحب المتوكلين} في سورة [آل عمران: 159].
وجملة: {عليه يتوكل المتوكلون} يجوز أن تكون مما أُمر بأن يقوله تذكرًا من النبي صلى الله عليه وسلم وتعليمًا للمسلمين فتكون الجملة تذييلًا للتي قبلها لأنها أعمّ منها باعتبار القائلين لأن {حسبي الله} يؤول إلى معنى: توكلت على الله، أي حَسبي أنا وحسب كل متوكل، أي كل مؤمن يعرف الله حق معرفته ويعتمد على كفايته دون غيره، فتعريف {المتوكلون} للعموم العرفي، أي المتوكلون الحقيقيون إِذ لا عبرة بغيرهم.
ويجوز أن تكون من كلام الله تعالى خاطبَ به رسوله صلى الله عليه وسلم ولم يأمره بأن يقوله فتكون الجملة تعليلًا للأمر بقَول: {حسبي الله} أي اجعَلْ الله حسبك، لأن أهل التوكل يتوكلون عَلَى الله دون غيره وهم الرسل والصالحون وإذ قد كنتَ من رفيقهم فكن مثلَهم في ذلك على نحو قوله تعالى: {أولئك الذين هدى اللَّه فبهداهم اقتده} [الأنعام: 90].
وتقديم المجرور على {يتوكَّلُ} لإِفادة الاختصاص لأن أهل التوكل الحقيقيين لا يتوكلون إلا على الله تعالى، وذلك تعريض بالمشركين إذ اعتمدوا في أمورهم على أصنامهم.
{قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (39)} لما أبلغهم الله من الموعظة أقصى مَبلغ، ونصب لهم من الحجج أسطع حجة، وثبَّت رسوله صلى الله عليه وسلم أرسخ تثبيت، لا جرم أمر رسوله صلى الله عليه وسلم بأن يوادعهم موادعة مستقرِب النصر، ويواعدهم ما أُعد لهم من خسر.
وعدم عطف جملة {قُل} هذه على جملة {قل حسبي الله} [الزمر: 38] لدفع توهم أن يكون أمره {قُلْ حسبي الله} لقصد إبلاغه إلى المشركين نظير ترك العطف في البيت المشهور في علم المعاني:
وتظن سلمَى أنني أبغي بها ** بَدَلًا أَراها في الضلال تَهيم

لم يعطف جملة: أراها في الضلال، لئلا يتوهم أنها معطوفة على جملة: أبغي بها بدلًا، ولأنها انتقال من غرض الدعوة والمحاجّة إلى غرض التهديد.
وابتدأ المقول بالنداء بوصف القوم لما يشعر به من الترقيق لحالهم والأسف على ضلالهم لأن كونهم قومه يقتضي أن لا يدخرهم نصحًا.
والمكانة: المكان، وتأنيثه روعي فيه معنى البقعة، استعير للحالة المحيطة بصاحبها إحاطة المكان بالكائن فيه.
والمعنى: اعملوا على طريقتكم وحالكم من عداوتي، وتقدم نظيره في سورة الأنعام (135).
وقرأ الجمهور {مكانتكم} بصيغة المفرد.
وقرأ أبو بكر عن عاصم {مكاناتكم} بصيغة الجمع بألف وتاء.
وقال تعالى هنا: {مَن يأتيه عذابٌ يخزيه} ليكون التهديد بعذاب خزي في الدنيا وعذاب مقيم في الآخرة.
فأما قوله في سورة [الأنعام: 135]: {قل يا قوم اعملوا على مكانتكم إني عامل فسوف تعلمون من تكون له عاقبة الدار} فلم يذكر فيها العذاب لأنها جاءت بعد تهديدهم بقوله: {إن ما توعدون لآت وما أنتم بمعجزين} [الأنعام: 134].
وحذف متعلِّق {إني عامل} ليَعمّ كل متعلِّق يصلح أن يتعلق ب {عامل} مع الاختصار فإن مقابلته بقوله: {اعملوا على مكانتكم} يدل على أنه أراد من {إني عامل} أنه ثابت على عمله في نصحهم ودعوتهم إلى ما ينجيهم.
وأن حذف ذلك مشعر بأنه لا يقتصر على مقدار مكانته وحالته بل حالة تزداد كل حين قوةً وشدة لا يعتريها تقصير ولا يثبطها إعراضهم، وهذا من مستتبعات الحذف ولم ننبه عليه في سورة الأنعام وفي سورة هود.
و{مَن} استفهامية عَلَّقت فعل {تَعْلَمُون} عن العمل في مفعوليه.
والعذاب المُخزي هو عذاب الدنيا.
والمراد به هنا عذاب السيف يوم بدر.
والعذاب المقيم هو عذاب الآخرة، وإقامته خلوده.
وتنوين {عَذَابٌ} في الموضعين للتعظيم المراد به التهويل.
وأسند فعل {يأتِيهِ} إلى العذاب المخْزي لأن الإِتيان مشعر بأنه يفاجئهم كما يأتي الطارق.
وكذلك إسناد فعل {يَحل} إلى العذاب المقيممِ لأن الحلول مشعر بالملازمة والإِقامة معهم، وهو عذاب الخلود، ولذلك يسمى منزل القول حِلة، ويقال للقوم القاطنين غير المسافرين هم حِلال، فكان الفعل مناسبًا لوصفه بالمقيم.
وتعدية فعل {يحل} بحرف على للدلالة على تمكنه.
{إِنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (41)} الجملة تعليل للأمر بأن يقول لهم اعملوا على مكانتكم المفيد موادعتَهم وتهوينَ تصميم كفرهم عليه، وتثبيتَه على دعوته.
والمعنَى: لأنا نزلنا عليك الكتاب بالحق لفائدة الناس وكفاك ذلِك شرفًا وهدايةً وكفاك تبليغه إليهم فمن اهتدى من الناس فهدايته لنفسه بواسطتك ومن ضل فلم يهتد به فضلاَلُه على نفسه وما عليك من ضلالهم تَبعة لأنك بلغتَ ما أمرتَ به.
ولذلك خولف بين ما هنا وبين قوله في صدر السورة {إنَّا أنزلنا إليك الكتاب للناس بالحق} [القصص: 2]، لأن تلك في غرض التنويه بشأن النبي صلى الله عليه وسلم فناسب أن يكون إنزال الكتاب إليه، و{للنَّاس} متعلق ب {أنزلنا} و{بالحَقِّ} حال من {الكِتَاب} والباء للملابسة، واللام في {للنَّاس} للعلة، أي لأجل الناس.
وفي الكلام مضاف مفهوم مما تؤذن به اللام من معنى الفائدة والنفع أي لنفع الناس، أو مما يؤذن به التفريع في قوله: {فَمَن اهتدى}. إلخ.
وفاء {فَمَننِ اهتدى فَلِنَفْسِه} للتفريع وهو تفريع ناشىء من معنى اللام.
ومَنْ شرطية، أي من حصل منه الاهتداء في المستقبل فإن اهتداءه لفائدة نفسه لا غير، أي ليست لك من اهتدائه فائدة لذاتك لأن فائدة الرسول صلى الله عليه وسلم وهي شرفه وأجره ثابتة عن التبليغ سواء اهتدى من اهتدى وضل من ضل.
وتقدم نظير هذه الآية في قوله: {قل يا أيها الناس قد جاءكم الحق من ربكم فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه} آخر سورة يونس (108)، وفي قوله: {وأمرت أن أكون من المسلمين وأن أتلو القرآن فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه} في آخر سورة النمل (91، 92)، ولكن جيء في تينك الآيتين بصيغة قصر الاهتداء على نفس المهتدي وتُرك ذلك في هذه السورة، ووجْهُ ذلك أن تينك الآيتين واردتان بالأمر بمخاطبة المشركين فكان المقام فيهما مناسبًا لإِفادة أن فائدة اهتدائهم لا تعود إلا لأنفسهم، أي ليست لي منفعة من اهتدائهم، خلافًا لهذه الآية فإنها خطاب موجه من الله إلى رسوله ليس فيها حالُ من ينزل منزلة المُدل باهتدائه.
أما قوله: {ومَن ضَلَّ فإنما يضل عليها} فصيغة القصر فيه لتنزيل الرسول صلى الله عليه وسلم في أسفه على ضلالهم المفضي بهم إلى العذاب منزلةَ من يعود عليه من ضلالهم ضُر، فخوطب بصيغة القصر، وهو قصر قلب على خلاف مقتضى الظاهر.
ولذلك اتّحدت الآيات الثلاث في الاشتمال على القصر بالنسبة لجانب ضلالهم فإن قوله في سورة النمل (92) {فقل إنما أنا من المنذرين في معنى فإنما يضل عليها} أي ليس ضلالكم عليَّ فإنما أنا من المنذرين.
وهذه نكت من دقائق إعجاز القرآن.
وقوله: {وما أنت عليهم بوكيل} القول فيه كالقول في {وما أنا عليكم بوكيل} في سورة يونس (108).
وجملة {وما أنت عليهم بوكيل} عطف على جملة {فَمَننِ اهتَدَى فلِنَفْسه} أي لَسْتَ مأمورًا بإرغامهم على الاهتداء، فصيغ هذا الخبر في جملة اسمية للدلالة على ثبات حكم هذا النفي. اهـ.

.قال ابن عطية في الآيات السابقة:

ثو وقفهم توقيفًا معناه نفي الموقف عليه بقوله: {فمن أظلم ممن} أي لا أحد أظلم ممن كذب على الله، والإشارة بهذا الكذب بقولهم: إن لله صاحبة وولدًا وقولهم: إن كذا حرام، وإن كان حلال افتراء على الله، وكذبوا أيضًا بالصدق، وذلك تكذيبهم أقوال محمد عليه السلام عن الله تعالى ما كان من ذلك معجزًا أو غير معجز. ثم توعدهم تعالى تواعدًا فيه احتقارهم بقوله على وجه التوقيف: {أليس في جنهم مثوى للكفارين} والمثوى موضع الإقامة.
{وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (33)} قوله تعالى: {والذي جاء بالصدق} معادل لقوله: {فمن أظلم ممن كذب} [الزمر: 32] {فمن} [الزمر: 32] هنالك للجميع والعموم، فكذلك هاهنا هي للجنس أيضًا، كأنه قال: والفريق الذي جاء بعضه بالصدق وصدق بعضه، ويستقيم المعنى واللفظ على هذا الترتيب. وفي قراءة ابن مسعود: {والذي جاؤوا بالصدق وصدقوا به} والصدق هنا: القرآن وأنباؤه والشرع بجملته. وقالت فرقة: {الذي} يراد به الذين، وحذفت النون لطول الكلام، وهذا غير جيد، وتركيب جاء عليه يرد ذلك، وليس هذا كقول الفرزدق:
إن عميَّ اللذا قتلا الملوك

ونظير الآية قول الشاعر أشهب بن رملية: الطويل:
وإن الذي حانت بفلج دماؤهم ** هُم القوم كل القوم يا أم خالد

وقال ابن عباس: {والذي جاء بالصدق} هو محمد صلى الله عليه وسلم وهو الذي صدق به، وقالت فرقة من المفسرين: الذي جاء هو جبريل، والذي صدق به هو محمد صلى الله عليه وسلم. وقال علي بن أبي طالب وأبو العالية والكلبي وجماعة الذي جاء هو محمد عليه السلام، والذي صدق هو أبو بكر. وقال أبو الأسود وجماعة منهم مجاهد: الذي صدق هو علي بن أبي طالب وقال قتادة وابن زيد: الذي جاء هو محمد صلى الله عليه وسلم، والذي صدق به هم المؤمنون. قال مجاهد هم أهل القرآن. وقالت فرقة: بالعموم الذي ذكرناه أولًا، وهو أصوب الأقوال.
وقرأ أبو صالح ومحمد بن جحادة وعكرمة بن سليمان: {وصدَق به} بتخفيف الدال، بمعنى استحق به اسم الصدق، فعلى هذه القراءة يكون إسناد الأفعال كلها إلى محمد عليه السلام، وكأن أمته في ضمن القول، وهو الذي يحسن {أولئك هم المتقون} قال ابن عباس: اتقوا الشرك.
واللام في قوله: {ليكفر} يحتمل أن تتعلق بقوله: {المحسنين} أي الذين أحسنوا لكي يكفر، وقاله ابن زيد. ويحتمل أن تتعلق بفعل مضمر مقطوع مما قبله، كأنك قلت: يسرهم الله لذلك ليكفر، لأن التكفير لا يكون إلا بعد التيسير للخير، واستدلوا على أن {عملوا} هو كفر أهل الجاهلية ومعاصي أهل الإسلام.
وقوله تعالى: {أليس الله بكاف عبده} تقوية لنفس النبي عليه السلام، لأن كفار قريش كانت خوفته من الأصنام، وقالوا يا محمد أنت تسبها ونخاف أن تصيبك بجنون أو علة، فنزلت الآية في ذلك.
وقرأ حمزة والكسائي: {عباده} يريد الأنبياء المختصين به، وأنت أحدهم، فيدخل في ذلك المطيعون من المؤمنين والمتوكلون على الله، وهذه قراءة أبي جعفر ومجاهد وابن وثاب وطلحة والأعمش. وقرأ الباقون: {عبده} وهو اسم جنس، وهي قراءة الحسن وشيبة وأهل المدينة ويقوي أن الإشارة إلى محمد عليه السلام قوله: {ويخوفونك}.
وقوله: {من دونه} يريد بالذين يعبدون من دونه، وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث خالد بن الوليد إلى كسر العزى، فقال سادنها: يا خالد، إني أخاف عليك منها، فلها قوة لا يقوم لها شيء، فأخذ خالد الفأس فهشم به وجهها وانصرف. ثم قرر تعالى الهداية والإضلال من عنده بالخلق والاختراع، وأن ما أراد من ذلك لا راد له. ثم توعدهم بعزته وانتقامه، فكان ذلك، وانتقم منهم يوم بدر وما بعده.
{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} هذا ابتداء احتجاج عليهم بحجة أخرى، وجملتها أن وقفوا على الخالق المخترع، فإذا قالو إنه الله لم يبق لهم في الأصنام غرض إلا أن يقولوا إنها تنفع وتضر، فلما تقعد من قولهم إن الله هو الخالق، قيل لهم {أفرأيتم} هؤلاء إذا أراد الله أمرًا بهم قدرتم على نقضه؟ وحذف الجواب عن هذا، لأنه من البين أنه لا يجيب أحد إلا بأنه لا قدرة بالأصنام على شيء من ذلك.
وقرأ: {إن أرادنيَ} بياء مفتوحة جمهور القراء والناس. وقرأ الأعمش: {أرادني الله} بحذف الياء في الوصل، وروى خارجة {إن أراد} بغير ياء.
وقرأ جمهور القراء والأعرج وأبو جعفر والأعمش وعيسى وابن وثاب: {كاشفاتُ ضرِّه} بالإضافة. وقرأ أبو عمر وأبو بكر عن عاصم: {كاشفاتٌ ضرَّه} بالتنوين والنصب في الراء، وهي قراءة شيبة والحسن وعيسى بخلاف عنه وعمرو بن عبيد، وهذا هو الوجه فيما لم يقع بعد، وكذلك الخلاف في: {ممسكات رحمته}.
ثم أمره تعالى بأن يصدع بالاتكال على الله، وأنه حسبه من كل شيء ومن كل ناصر، ثم أمره بتوعدهم في قوله: {اعملو على مكانتكم إني عامل} ما رأيتموه متمكنًا لكم على حالتكم التي استقر رأيكم عليها.
وقرأ الجمهور: {مكانتكم} بالإفراد. وقرأ {مكاناتكم} بالجمع: الحسن وعاصم.
وقوله: {اعملوا} لفظ بمعنى الوعيد. والعذاب المخزي: هو عذاب الدنيا يوم بدر وغيره.
والعذاب المقيم: هو عذاب الآخرة، أعاذنا الله تعالى منه برحمته.
{إِنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (41)} هذا إعلام بعلو مكانة محمد عليه السلام واصطفاء ربه له. و{الكتاب} القرآن.
وقوله: {بالحق} يحتمل معنيين، أحدهما: أن يريد مضمنًا الحق في أخباره وأحكامه، والآخر: أن يريد أنه أنزله بالواجب من إنزاله وبالاستحقاق لذلك لما فيه من مصلحة العالم وهداية الناس، وكأن هذا الذي فعل الله تعالى من إنزال كتاب إلى عبيده هو إقامة حجة عليهم، وبقي تكسبهم بعد إليهم، {فمن اهتدى فلنفسه} عمل وسعى، {ومن ضل فعليها} جنى، والهدى والضلال إنما لله تعالى فيهما خلق واختراع، وللعبد تكسب، عليه يقع الثواب أو العقاب. وأخبر نبيه أنه ليس بوكيل عليهم ولا مسيطر، والوكيل: القائم على الأمر حتى يكمله. اهـ.